كانت الدول العربية والإسلامية منذ القرن الحادي عشر الهجري السابع عشر الميلادي إلى القرن الثالث عشر الهجري التاسع عشر الميلادي تغط في سُبات عميق.
وما زالت كذلك حتى قام رجال عظماء حركوا الراكد من أمرها.
وأيقظوا النائم من أهلها، وبعثوا فيها نهضة سياسية وعلمية وثقافية هائلة، وكان لهم -بعد الله تعالى- الفضل الأكبر في التوطئة لهذه الصحوة المباركة التي تعيشها البلاد العربية والإسلامية منذ ثلث قرن تقريبًا.
وكان من هؤلاء العظماء شهاب الدين أبو الثناء الآلوسي العراقي. وآلوس -وتقصر همزتها وتمد- قرية على أعالي الفرات، في محافظة الأنبار، غرب العراق.
ولد رحمه الله تعالى سنة 1217هـ 1802م في الكَرْخ -محلة ببغداد- من أسرة حسينية النسب، وأبوه صالح عالم يسمى بهاء الدين عبد الله، وقد توفي بالطاعون سنة 1246هـ، وخلف ثلاثة أبناء منهم أبو الثناء محمود الذي نشأ على ما ينشأ عليه طلاب العلم في زمانه.
فقرأ القرآن، وحفظ الآجرومية في النحو، وألفيه ابن مالك، وحفظ منظومة الرحبية في علم الفرائض، وقرأ على أبيه الفقه، وأتم كل ذلك وهو دون العاشرة!!
ثم أخذ على جملة من علماء بلده ومنهم الشيخ علاء الدين الموصلي فقد لازمه أربعة عشر عامًا، حتى أجازه في التدريس، فدَرّس بعد ذلك في أماكن عديدة، وخطب ووعظ، وولي أوقاف مدرسة مرجان وهي رتبة مشروطة لأعلم أهل البلد، ونُصب مفتيًا للحنفية.
وتلك المناصب والوظائف جلبت له حسد الحاسدين، ووشاية الواشين، وقد نال (نيشان) السلطان لما أجاب على أسئلة صعبة وردت من إيران، وشرع يؤلف تفسيره الكبير "روح المعاني"، وهو مطبوع اليوم ومتداول.
ثم أثمر الكيد والحسد عن عزله عن منصب الإفتاء، ورُفعت يده عن الأوقاف، وتغير حاله وافتقر فلم يجد بدًّا من الذهاب إلى إسطنبول لعرض أمره على السلطنة هنالك.
وكان قد أتم التفسير فأخذه معه وسيلة إلى ما هنالك، فالتقى في إسطنبول شيخ الإسلام عارف حكمت صاحب المكتبة المشهورة في المدينة النبوية المنورة، فأعرض عنه شيخ الإسلام لما سبق من وشاية الواشين وحسد الحاسدين ثم صلح ما بينهما.
ثم عرض أمره على الصدر الأعظم "رئيس الوزراء" مصطفى رشيد باشا، فتوصل إلى أن يُنعم عليه السلطان عبد المجيد بخمسة وعشرين ألف قرش إسطنبولي وله مثلها كل عام.
وأعطاه شيخ الإسلام خمسين ألف قرش، وعاد إلى وطنه بعد أن غاب عنه قرابة سنتين، وكتب رحلته هذه في كتاب "غرائب الاغتراب"، وفي كتابين آخرين سجل فيهما رحلة الذهاب والإياب.
كتبه:
كان له كتب كثيرة جليلة، منها (روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني)، وهو كتاب ضخم كبير، سار فيه على طريقة القدماء، لكن مزج تفسيره بإشارات الصوفية وببعض الأحاديث الضعيفة وبعض الإسرائيليات.
لكن تفسيره هذا في الجملة مقبول، وقد أورد فيه كثيرًا من النقولات، ورجح بعضها على بعض، وكان في مدة اشتغاله بهذا التفسير عالي الهمة جدًّا.
فقد ذكر طلابه أنه كان يسهر الليل يقرأ ويكتب، فإذا أشرقت الشمس دفع إلى طلابه ما كتبه في الليل ليبيضوه في النهار، وهكذا إلى أن فرغ منه.
ولا بد لأبي الثناء من هذه الهمة ليفرغ من تفسيره الكبير الذي تفنى الأعمار قبل تمامه، هذا على ما هو فيه من الانشغال بالمناصب والتدريس، لذلك كله بقي في تأليف الكتاب خمسة عشر عامًا.
وقد طبعه ابنه خير الدين نعمان في مصر بمطبعة بولاق سنة 1301هـ.
وله كتاب (الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية)، وفيه إجابة عن ثلاثين مسألة وردت من إيران في التفسير واللغة والفقه والعقائد والمنطق وعلم الفلك، وغير ذلك.
وله كتاب (الأجوبة العراقية عن الأسئلة اللأهورية)، ذب فيه عن أصحاب النبيورضي عنهم، وكافأه السلطان عليه بمكافأة عظيمة، وطبع في بغداد سنة 1301هـ.
وله كتاب (غرائب الاغتراب ونزهة الألباب في الذهاب والإقامة والإياب)، وقد ذكر في الكتاب ما جرى عليه لما ذهب إلى إسطنبول.
وقد طبع في بغداد سنة 1317هـ، وله كتابان آخران ألفهما عن رحلته وهما مطبوعان.
وله كتاب (سُفرة الزاد لسَفرة الجهاد) دعا فيه المسلمين إلى اليقظة في كل الجوانب، وأعلن أن الجهاد فريضة لا بد منها أمام هجمات أعداء الإسلام التي تتابعت على العالم الإسلامي آنذاك.
وله كتب كثيرة غير هذه ما بين مطبوع ومخطوط ومفقود، وجملتها اثنان وعشرون كتابًا.
ريادته:
كان أبو الثناء الآلوسي رائدًا في بلاده العراق وأحد أعمدته، فقد كان مفسرًا لا مثيل له في عصره، ومؤرخًا، وفقيهًا، وقد نُصب مفتيًا للحنفية وهو في الثلاثين من عمره، وهذا دليل نبوغ وريادةز
وبقي في منصب الإفتاء خمسة عشر عامًا ثم عزل، على أنه لم يكن حنفيًّا فأسرته شافعية لكن منصب المفتي إنما هو للأحناف فقط على ما جرت عليه العادة في الدولة العثمانية، فأقبل أبو الثناء على دراسة المذهب الحنفي حتى أتقنه وبرع فيه.
وكان أبو الثناء على مذهب السلف في العقيدة، وكان كثيرًا ما يردد: "يا بَني، عليكم في باب العقائد بعقيدة السلف فإنها أسلم، بل من أنصف يعلم أنها أيضًا أعلم وأحكم؛ لأنها أبعد عن القول على الله بما لا يعلم".
وقد كان أبو الثناء مناصرًا لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، مثنيًا عليها.
وقد ذكر في تفسيره آراء لشيخ الإسلام ابن تيمية، وقد كان هذا في ذلك الوقت أمرًا عظيمًا محتاجًا إلى شجاعة وقوة.
ولم يكن أبو الثناء منقطعًا عن الناس بل كان واسطة عقدهم، وإليه -بعد الله تعالى- مفزعهم، وهو مهوى أفئدتهم، فلذلك أقبلوا عليه إقبالًا عظيمًا، وتعلقوا به، وصار له تلامذة كبار، وصح فيه قول المؤرخ العراقي عباس العزّاوي: إن العصر الحديث في العراق يجب أن يسمى عصر الآلوسي.
ها وقد قال الأستاذ العزاويّ -أيضًا- في الآلوسي قولًا يلخص ما كان عليه من صلة بالناس:
"إن علماءنا ساروا على الجادة العلمية من تدريس كتب بعينها وما فيها من تعقيد وسقامة، ولم يخرجوا عنها فدام جمودهم، كما أنهم قبعوا في مدارسهم وتركوا تهذيب الأمة وأهملوا العلاقة بها.
فدخلت عقائد زائفة وانتشرت في الخفاء، ثم ظهرت الدعوة لها وأدت إلى خطر، وشُغْل المدرسين الشاغل التدريس دون التفات إلى تهذيب الشعب، ومن هنا نجمت الأخطار، والأستاذ بوعظه أعاد الاتصال بالشعب فأحبه".
وكان لأبي الثناء رأي في ولاة عصره وطرائق إدارتهم، وقد ذمّهم في مواضع عديدة لأسباب مختلفة، وطعن في طريقة اختيار مجلس الشورى، ورأى من الولاة بسبب ذلك وغيره ما ساءه من عزل له عن المناصب، وسُجن مرارًا.
وخُوِّف وكاد يقتل لكن الله تعالى نجاه، واتهمه بعض الولاة بإثارة الفتن والقلاقل، وتحريض الشعب على المظاهرات، واتهمه ولاة آخرون بالخروج على الدولة العثمانية.
وهكذا انتقل من تهمة لأخرى، ووجهت إليه السهام من كل جانب، فاضطر للسفر إلى إسطنبول لكنه لم يعد منها بما هو مأمول، فلبث في بيته بضع سنين إلى أن وافاه الأجل المحتوم.
صفاته:
كان أبو الثناء صاحب همة عالية أنبأت عنها كثرة تصانيفه على أن عمره قصير نسبيًّا، وكان له صبر عجيب على شدائد الحياة، فحين نزع من الإفتاء والأوقاف اشتد عليه الفقر حتى قال عن نفسه:
"إني بعت ثياب الشتاء لشراء قرطاس، وطالعت على نور القمر حيث أَعْوَزَني نبراس -أي مصباح- وكم قاسيت من شدائد تذيب الجلاميد (أي الصخور الصلاب)".
وعضه الفقر حتى باع كتبه وأثاثه وحاجاته لينفق على أهله حتى لم يبق في بيته شيء يباع، وبقي على ذلك ثلاث سنوات حتى كاد يأكل الحصير على مداد التفسير، كما قال.
ومن همته ارتحاله إلى أماكن عديدة -على صعوبة في الانتقال آنذاك- فقد ارتحل إلى الحجاز والشام وإسطنبول ومصر.
توفي رحمه الله تعالى سنة 1270هـ 1854م ولم يجز الخمسين إلا بقليل.
لكنه ترك ثروتين مهمتين، ثروة الكتب وعلى رأسها التفسير، وثروة من التلاميذ؛ فالنهضة العراقية الحديثة مدينة له.
وتلاميذه -تقريبًا- هم الذين تولوا من بعده قيادة المجتمع العراقي علميًّا وأدبيًّا وتاريخًا، فرحمه الله رحمة واسعة.
الكاتب: د. محمد موسى الشريف
المصدر: موقع التاريخ